معاينة ( قصة قصيرة )


-->
تركنى الصغير عند الباب الذى فتح مفسحا المجال لفيض من نور الله غمر الحانوت فإندحرت الظلمة و تراجعت عصا ثمينة مذعورة تلتمس الدفء فى عباءة سيدها العجوز .

ترددت لبرهة فى الدخول ثم خطوت الى الداخل مغلقا الباب بجسدى فإختفت ذرات الغبار السابحة بهوادة فى أشعة الشمس و عمت الظلمة من جديد فإمتدت يد العجوز الى الزر فعم المكان ضوء البشر .

أردت التعريف بنفسى إلا أن الرجل أشار الى مقعد بعصاه التى اغلقت الباب ثم تنحنح مرتين و صفق ثلاثا ثم نظر الى باسما و صمت .

عاودت محاولتى التعريف بنفسى و عملى إلا أن سبابته الحازمة اوقفتنى  ,كبلنى استسلام تام لم أعهده بنفسى النهمة للعمل ,المدهش أننى شعرت بسلام داخلى و أنا أتأمل العجوز , كان وجهه الغضن يغلف الكون بالمودة و الألفة , تشعر معه أنك تجالس جدك ...عمك .. صديق مقرب, ألفة تغرقك فى تفاصيل وجهه فتتأملها بروية و تمهل , البسمة الرقيقة و الطيبة التى تشع من العينين مهما حاولت النظارة اخفائها ... وشم العصفور على صدغه الايمن ملتحما مع وريد أزرق  كنهر كبير فى صفحة وجهه الناحل , يحتار المرء هل نشأ الوريد بزرقته من تسرب الوشم ... أم تلون الوشم بلون الوريد ؟, و على ظاهر اليد اليمنى استقر وشم آخر لعلم مصر الملكى , فيما غطت نظافة ثيابه و تناغمها على بساطتها فبدت شديدة الأناقة .


-->
 فتح باب من داخل المنزل على الحانوت فطفوت على سطح الواقع و تعلقت عيناى بعجوز تحمل اكواب الشاى , لم تكن بيضاء إلا أنها وجهها كان يشع بنور سماوى , تردد صوت بداخلى يالله هناك ملائكة يمشون على الأرض .

ناولنى العجوز كوب الشاب قائلا
- بعد أخذ حق الضيافة يمكنك أن تقول و تفعل ما تشاء .

مع الرشفة الأخيرة تحدثت بصوتى الجهورى القوى التى اعتاد على ارهاب الممولين
- عربى غانم ... مأمور ضرائب عامة ... جئت لإجراء معاينة .

جاء ت حربى النفسية بأثر عكسى على العجوز الذى جذبته نوبة ضحك اوقعت النظارة من وجهه , ثم تمالك زمام نفسه معتذرا و فتح درج و أخرج منه مظروفا و أعطاه لى قائلا

- عام 1950 بعث لى محمد أفندى الدسوقى هذا الخطاب يعلمنى بأنه قادم فى قطار سيصل المدينة فى التاسعة صباحا بعد يومين من وصول الخطاب , فأرسلت أحد رجالى ليقله على حمار إلى , لكن انتظارنا كان بلا فائدة , و بعد نصف قرن جئت أنت بلا خطاب و لا انتظار فيالها من مفارقة ... على العموم أرجو المعذرة يا بنى ان كنت قد أسأت اليك بضحكى .

-->
فضضت المظروف بسرعة و قرأت الخطاب و تعجبت , كان ورق الخطاب مصفرا بفعل الزمن و خطر بذهنى سنوات التقادم التى مرت و حمدت الله اننى انقذت الملف , تلفت حولى متفحصا المكان و شرعت فى الكتابة .... المساحة ثلاثة فى أربعة أمتار ..... الموجودات .... منضدة رخامية فى مواجهة الباب عليها علب بها حلوى أطفال و لبان ... على الحائط الأيسر أرفف عليها كراتين حلوى أطفال و بطاطس جاهزة , و على الأيمن أرفف عليها لفافة سكر و علب شاى و زجاجتا زيت زنة لتر و خمس علب سمن زنة ثلاث كليو جرامات ..... فى منصف الحانوت مكتب خشبى صغير و مقعدان يجلس على احداهما الممول ..... تقدر البضاعة بمائتى جنيه .

توقفت على الكتابة و نظرت باسما الى العجوز و قلت 
-        ذكرت بالمعاينة عشرالموجودات ... سأسألك بعض الأسئلة حتى  ننهى الامر سريعا .... كم تقدر متوسط المشتريات الاسبوعية .... المبيعات اليومية .... صافى الربح الشهرى؟
تجهم العجوز لبرهة ثم عاود صفائه قائلا
-        استمع الى بنى .... هذا الحانوت مجرد وهم ... اطلال للحانوت أيام زميلك .... عندما جئتنى وجدته مغلقا ... من يريد شراء شئ عليه ان ينادى كما فعل الصغير .... و هذه عصاى افتح و اغلق بها الباب و أهش بها الطير عن بضاعتى  .
زفر العجوز بضيق ثم غمم قائلا
-        هل لديك أولاد ؟
تابع بعد هزة نعم من رأسى
-        هم بلاشك صغار الآن لكنهم حين سيكبرون سيتركونك الى مدينة أكبر .... الى العاصمة كما فعل صغارى ... لا أراهم الا فى الأعياد و أحيانا لا , الصلة بيننا سماعة هاتف تحمل منهم حنينا زائفا لا يؤيده الواقع ... هل تظن أننى أحتاج الى  المال ....لا يا بنى ..... أريد أن اقهر و زوجى الوحدة .... أريد ان تعتاد الأقدام علينا ... أريد أن يسأل عنا ... فقد نموت دون أن يدرك أحد هذا .
غالبت العجوز دموعه فصمت حتى  استجمع شتاته فغلبنى طبع وظيفتى النكد و عاودت السؤال
-        كل هذه البضاعة من أجل الوحدة ... التقدير الحقيقى لها يزيد  على الألفى جنيه ؟
لم يبد على العجوز الضيق أو الجزع و إكتفى بإبتسامة قصيرة ساخرة و هو يقول
-        أما الحلوى فهى للأطفال الذين لا يجب أن يردوا خائبين  حتى لو جاءوا مفلسين و السكر و الزيوت لضرورات الجيران , و أما الكراتين ... .
نهض العجوز بلأى ثم طوح عصاه فأوقعت الكراتين أرضا ثم  عاد الى مقعده و ألتقط طرف الحديث مجددا
-        فى القرية عائلتان عائلة عوف و عائلتنا حسان , و التنافس بيننا جد شديد .... كنا نتنافس على العمودية وقت ان كانت بالانتخاب و كنا نقيم الافراح لها , أما و قد صارت الآن بالتعيين  كأحقر خفير فقد انتهى عليها التنافس ,  أمامك عمدة سابق كان يعامل المأمور بندية , أمامك  مشروع بيك كانت لدى عائلته خمسة الآف فدان أبقى لهم الاصلاح مائتى فدان ضاعت بين التوريث و التعليم و رغم ذلك فزت بالفلاح المثالى فى الجمهورية العربيةالمتحدة عام تسع وخمسين , ماذا بقى ؟.... بقى الحمد و الستر ... ابناء متعلمون يشغلون أعلى المراكز .... و بقيت المظاهر التى يجب أن تحيى فى عقول القرية ما كنت عليه ... أنا أبوسفيان هذه القرية .... و إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ... الكراتين فارغة يا أستاذ و لكن يجب ألا يبقى الحانوت فارغا أمام أهل القرية ... أليس كذلك ؟!!!.

-->
أدخلنى العجوز فى عاصفة من الذهول و الحيرة و التشتت أفقت منها  على صوت العجوز يستنجدنى
-        ساعدنى بنى كى أستعيد كرامتى المهدرة أرضا .

أسرعت  بإلتقاط الكراتين و رصها على الرف كما كانت فبدا على وجه العجوز المادة الخام للرضا , التقطت أوراقى مسرعا و دسستها فى حقيبتى ملقيا السلام فى عجالة على العجوز الذى استوقفنى عند الباب متسائلا

-        كم سأدفع ضريبة يا استاذ ؟

ابتلعت حرجى فى ابتسامة بلهاء و قلت
- لاشئ يا حاج اطمئن .... لن يزعجك أحد بعد الآن .... كنت أول من فحصك وسأكون الأخير .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المنادى(قصة قصيرة )

طابور الحمير (قصة قصيرة)