العم سام يريدك


دخلوا زرافات و طرحوه على دولاب العرض الزجاجي مغشيا عليه, سألتهم عن سبب علته فنظروا إلى بعيون نسجها الرعب.

اقتربت منه و شرعت في تفحصه , كان بجانب وجهه الأيمن تورم بحجم حبة مشمش و في منتصفه  جرح سطحي نتج غالبا من اصطدام جسد صلب بوجهه .
عاينت من قبل حالات أسوأ كانت ضحية لبيئة عمل صناعية تفتقر لأدنى ضمانات الأمن الصناعي, عظام مسحوقة.... جلود محروقة... و عيون اخترقها الرذاذ , كثير منها كان علاجها على يدي , و القليل لخطورته تم إحالته إلى الطبيب المختص , حتى صرت طبيب الحي و صارت صيدلتى  أمل المرضى و الفقراء , و لما لا و أنا لا أقول لا , قياس ضغط و سكر و إعطاء حقن و محاليل , أعرف كل بيت بالحي .... كبيرهم و صغيرهم , أضحك معهم و أتألم لألمهم حتى صرت جزءا أصيلا من كل بيت و كل عائلة , و كل ذلك أثمر في النهاية عملا رائجا و دخلا متصاعدا .

لكن هذه الحالة كانت الأصعب على رغم بساطتها , ربما لأنني أحب إسلام... حبا أتاح له أن يتجاوز في بعض الأحيان الحد الذي وضعته بيني و بين عملائي حتى لا أفقد احترامهم لي .

انتشلني صراخ زملائه بالورشة فسألتهم
-        من ضربه ؟

أجابوني بمزيج من الهمهمة و هز الرؤوس نفيا .


رفعت سماعة الهاتف و أخبرتهم أنني سأتصل بالشرطة ففروا مذعورين , تركت السماعة و التقطت زجاجة عطر قربتها من أنفه فبدأ في التنبه , بضع لحظات و كان في كامل وعيه فالتقطت الكشاف و أخذت في تفحص  عينيه فبدت حركة بؤبؤ العين اعتيادية بلا حول , ثم وضعت السماعة على صدره فكان تنفسه طبيعيا  , سألته إن كان قد تقيأ فنفى فشعرت بالراحة و سألته عن هوية المعتدى فلم يجب , , كنت أشعر بغضب عارم مستعر مرده  تخيلي لولدي محمد محل إسلام فصرخت فيه بعنف فانتفض و بكى , عاودت سؤالي فبدا التردد لبرهة على وجهه الطفولى الذي لم يجاوز عشرة أعوام ثم  باح  باسم ضاربه الذي دلف إلى الصيدلية لحظة نطق اسمه .
اقترب منا سيد مالك الورشة و سألني بالود المعتاد
-        ما هذا الكلام الغريب الذي سمعته يا دكتور, هل أبلغت الشرطة ؟ عن ماذا ؟!!! إنها حادثة عادية جدا, ارتطم المفتاح بوجه إسلام و هو بخير و سوف أعطيه مائة جنيه و إجازة غدا لكي يستريح... هل اتصلت حقا ؟ .
-        سأتصل به حالا, كيف أمكنك أن تضرب طفلا بهذه القسوة.

نظر إلى نظرة عميقة تحولت إلى نظرة غاضبة عنيفة و هو يقول هادرا
-        اتصل و  ستجد ما لا يسرك

قابلت نظراته  بنظرة متحدية  واثقة و أنا أقول غاضبا
-        ابقي لترني أتصل.

فانصرف مسرعا في فزع .
بعد قليل دخل بكر والد إسلام سائلا
-        ماذا حدث لإسلام يا دكتور عربي ؟.

شرحت له القصة تفصيلا فبدا على وجهه الغضب فشرحت له قوانين العمل التي تجرم عمالة الأطفال فبدا متجاوبا على نحو مبهر نحو التقدم ببلاغ لمعاقبة سيد خاصة بعدما علم بإمكانية حصوله تعويض سخي.
كنت أرى بكر في بعض الأحيان إما مستلقيا على ظهره أمام منزله أو منتشيا على مقعد في مقهى أو حين يدخل على  متصنعا الخجل ثم يميل على أذني طالبا حبة فياجرا و حبة مخدر ليصنع مزيجا من الاثنين يمنحه القوة و الوقت , الحق أن المصريين مبدعون , و في النهاية كنت سعيدا مادام سيؤدى إلى زيادة دخلي , له من الأولاد سبعا من الذكور و بنتان لكنه كان عاطلا , و كانت وظيفته إنجاب الأطفال و إرسالهم للعمل عوضا عنه  .

انضم إلينا من جديد سيد فاشتبك معه بكر باللفظ ثم اليد, و سرعان ما انقلبت الصيدلية إلى سويقة ساد فيها الصراخ  والتشاحن بعدما سارع العديد من المارة للتدخل , فلما ضاقت بهم أرجائها انطلقوا إلى فضاء الشارع , لكن العقلاء في النهاية تدخلوا بينهما و هدأت الأجواء  و لف سيد ذراعه حول عنق بكر و تنحى به جانبا ثم دخلا في حوار عاتب طويل انتهى بوضع سيد مال وفير في جيب سيد ثم تبادلا البسمات أعقبتها ضحكات ماجنة نتجت غالبا من تبادل النكات الجنسية  ثم اتجها نحوى .

ابتسم بكر ثم قال
-        قبل عمك سيد يا إسلام , لديك إجازة ليومين و يومية شهر إضافية .... هيا أسرع و قبله .

لاحظ بكر انعقادة وجهي فتابع ضاحكا
-        المسامح كريم يا دكتور و الحاج سيد اعترف بخطئه و كفى .

غادر بكر و ولده و بقى سيد يحدق في بسخرية و تحدى ثم قال قبيل انصرافه
- هل أنتظر معك الشرطة ؟..... سلام يا دكتور.

في المساء كنت شديد الضيق أفكر فيما حدث فعز على النوم ففتحت التلفاز و شاهدت جلسة التصويت المتعجلة على الدستور, توقفت عند المادة 70
((ويحظر تشغيل الطفل، قبل تجاوزه سن الإلزام التعليمي، في أعمال لا تناسب عمره، أو تمنع استمراره في التعليم))


تذكرت إسلام  و عمله و شعرت برغبة ملحة في التقيؤ , فمع الدستور السابق الذي حظر عمالة الأطفال نشأ الاتجار الأطفال في أعمال يمتهنها الكبار , فماذا سيحل له و أقرانه بعدما خلق الدستور منفذا قانونيا يمكن النفاذ منه شرعنة عمالة الأطفال , شرعت باختناق شديد , كنت على ثقة بأن المجتمع لن يرضى بدستور معيب , لكن قنوات التلفاز اكتفت بنقل الجلسة دون تعليق فقررت الانتقال إلى الانترنت , لكنه خلى هو الآخر مما يشفى غليلي  , جذب نظري إعلان متحرك تحت عنوان العام سام يريدك , لم أكن يوما من مجانين الهجرة لكن كلمة انقر كانت شديدة الإغراء على مقاومتي  فولجت , ملئت استمارتي و شعرت  للمرة  الأولى براحة  و أنا اتخيلى نفسي على متن طائرة تفر بى من وطن ماتت فيه حقوق الإنسان 





تعليقات

‏قال osamaghanem
السلام عليكم
البعض من معارفى يعتب على لكسلى و أنا أعترف بذلك و لكن
هذه المدونة مختلفة فى أنها تأخذ الطابع القصصى على خلاف المدونات التى تأخذ الطابع الشخصى الانطباعى المباشر أو حتى الخبرى
كما أود أن أشكر متابعى فى أمريكا و الدول العربية و خاصة مصر و اليمن و أتمنى أن يزيد التواصل

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المنادى(قصة قصيرة )

طابور الحمير (قصة قصيرة)