اصطياد البط الأحمر( قصة قصيرة )
حدجنا بغضب و نحن نهبط من العربة , كان أقرب لكلب يتحفز انتظارا للحظة
المناسبة للانقضاض , سرعان ما اقتنصها عندما وقفنا أمامه ,فارتعش لسانه بعشرات
العبارات الغاضبة لاصقا بوجهينا رذاذ لعابه , كان مهتاجا على نحو غريب حتى أننا
تسمرنا بلا حراك أو وعى , بعد حين تيقظنا على صراخه
- هل سأنتظركما إلى
الأبد أيها الكسولين, تحركا قبل أضعكما في الحجز.
تبعناه خانعان, كان يتهادى كطاووس و من أمامه مخبران يمهدان له الطريق
فيما لحق بنا العاملون تحت إمرتنا يداخلهم مشاعر متناقضة بين الفرح و الحزن لما
حدث لنا.
كان الجو قارص البرودة في ذلك الوقت من شهر يناير, و بدت الشمس كعذراء
تتخفى وراء حجب من سحاب داكن, و بدا الضباب أكثف مما كان عليه وقت كنا بالمدينة,
فعزت الرؤية و صرنا نبصر الأشياء أمامنا هياكل و أشباحا, و اختفت أقدامنا وسط
الضباب الكاسي على الأرض فاعتمدنا على حاسة السمع و التوقع , و كانت أصوات العشب
المثقلة بماء الندى و الضباب تأن تحت وطأة أقدامنا و بين الفنية و الأخرى تهب ريح
باردة خبيثة فتمر على بنطالى و حذائي المبللين بالندى و الضباب فتسرى القشعريرة بجسدي
.
حدثتني نفسي:
-هذا هو الوقت المثالي للموت .
لا أعرف كيف يعقل هذا الوطن
!!!!!!, أنا حاصل على شهادة الدكتوراه في جنين القمح و أعمل في الإنتاج الحيواني
بإدارة زراعية !!!!, راتبي ثلاثمائة و خمسون جنيها لا تكفى لمواجهة دقيقة رعب في
مواجهة أنفلونزا الطيور.
اعتدل شبح في الضباب فاستفقت,إعتدالة أفاقت أيضا رفيقي بالحملة البيطار
فزفر لاهبا , لاشك أنه كان مثلى يفكر أن المرتب الهزيل لا يستحق مواجهة الموت
المحقق طبقا لتقديرات الصحة العالمية .
مع إ قترابنا أتضح لنا أن الشبح ليس إلا صاحب المزرعة السيد / كامل الذي
استقبلنا بوجه باش و سعادة غير مبررة , إلا أن تلك السعادة سرعان ما تغيرت إلى وجه
عابس عندما أكد له البيطار أحمد أن نتائج العينة جاءت إيجابية و أن الخطوة التالية
هي العزل و الإعدام بالدفن في الجير الحي .
لم يفت ذلك من عضد كامل الذي جذبني و البيطار بعيدا عن الحشد و عرض علينا رشوة , هي المرة
الأولى التي تعرض على فيها رشوة فتجمدت إلا أن أحمد كان صارما في الرفض رغم
محاولات الرجل المتكررة و المتنوعة في الرجاء و الإقناع , فحاول جذبي بعيدا عن
أحمد ألا أنني دفعت يده بعنف فارتجف غضبا و بدا مترنحا في سيره و هو يتجه نحو
الضابط الذي بدا أكثر تعاونا منا فعاود السرور السباحة على وجه كامل .
ران الصمت و الترقب لبعض الوقت كان الضابط يحدجنا بنظرات نارية غاضبة مرعبة
, إلا أن عينا المخبر الزجاجية كعيني أفعى التى لاحقتني
كانت تثير الرِّعْدَةُ في جسدي أكثر .
انتهى الترقب و تقدم الضابط نحونا متبوعا بالمخبر الافعوانى الذي استمر
في تحديقه في , كان صوت الضابط ودودا
خافتا على غير عادته و هو يحدثنا عن الظلم الذي سيحيق بصاحب المزرعة جراء الإعدام إلا أننا واصلنا رفضنا فارتفع صوته قليلا و هو
يحدثنا عن غباء الرجل الذي ظن أن الحملة ستجرى إعداما وهميا لعدد قليل من بطه ثم
ينال تعويضا من الحكومة بعد تنفيذ الإعدام , بدا التردد على وجهينا فاقترب الضابط
منا و وسم كامل بلفظ ناب ثم آخر ثم أطلق ضحكة استوردها من جلسة حشاشين إلا أننا واصلنا الرفض , فعلا صوته أكثر و بدأ في
سبنا بألفاظ نابية ثم انتهى إلى التأكيد بأن الإعدام سيكون صوريا سواء وافقنا أو
لم نوافق , سيكون صوريا سواء كان مجانا أو نال كل واحد منا ألفى جنيه , باغتني لساني
بسؤال الضابط :
-
ما هو مقدار رشوتك ؟
كنت و مازلت مشهورا بالتهور و التسرع , و لكن ماذا عساى أفعل و الطبع
غلب التطبع , و لأن لكل فعل رد فعل , فقد جالت بعقلي آلاف الصور لي و أنا ملقا على
الأرض و فكي و وجهي نازفين محطمين فأطبقت عينيي
بشدة متوقعا أسوأ البلاء , إلا أن الانتظار طال ففتحت عيني لأجد المخبر و الضابط يحدقان في بإمعان , سألني
الضابط بتردد
-
هل تعرف الباشا ؟ .
الآن أدرك سر التحديق المتواصل من الأفعى, الآن أدركت أن الحظ صار
حليفي فابتسمت قائلا:
-
تقصد خالي ؟.
خيل لي أن الضابط انكمش رعبا فتابعت ضاحكا :
-
لكنني أمقته كما أمقتك لأنكما فاسدان.
استعاد الضابط تحفزه و لمعت عينيه فأردفت مسرعا
-
و لكنه
سيبذل قصارى جهده من أجلى كرمي لأمي .
خبا البريق و عاود الضابط انكماشه
ثم اتجه إلى كامل و بدأ يتهامسان و يشيران إلى , و استمر الهمس و الإشارة لوقت
طويل , و كلما سألنا عن الجرافات و الجير الحي قيل لنا أنهم في الطريق .
فلما مرت ساعة قدم الينا الضابط ليعلمنا بأن
عملية الإعدام محتوم عليها التأجيل لتعذر قدوم الجرافات و الجير , إلا أن أحمد فطن
لغرض الضابط فأصر على تنفيذ الإعدام اليوم يدويا , فبدأ العمال في حفر حفرة بعرض
مترين و طول خمس و عمق ثلاثة أمتار, و تم
البحث حتى عثر على جير حي بجمعية زراعية قريبة فأرسل أحد العمال إحضاره .
و مع آذان العصر كان عمال الحفر قد انتهوا
أخيرا من مهمتهم , و بدا من نظراتهم أن يودون دفننا في تلك الحفرة , و كان رائعا
أن تصل في ذات الوقت العربة التي تحمل الجير الحي , و لم يعد أمام الضابط بد ألا
الشروع في عملية الإعدام .
كانت المحاولة الأولى للإعدام بائسة , فباءت
محاولات العمال في إمساك البط , و علت البطبطة و امتلأ جو العنبر بالريش و الروث , و نجحت إحدى الإناث
في الهرب و الطيران بعيدا فأمر أحمد أحد العمال بالعدو إثرها حتى لا تتفشى العدوى
.
و كانت المحاولة الثانية مزرية رغم الاحتياطات التي تم أخذها , فتم غلق الأنوار
حتى يكون البط فريسة سهلة و تم جلب عددا من العصيان الغليظة وأعطى الضابط الإشارة
فتم غلق الأبواب خلفهم , فعلت البطبطة من جديد و علا معها صوت ارتطام العصي بالبط
و الأرض و الجدران , و بدا أن بعض الإصابات نالت المهاجمين جراء التدافع و الظلمة .
توقف الضرب و ساد الصمت و أعيدت الإضاءة و فتح
الباب , كان أولى الخارجين بطة أغرقت
الدماء ريشها الأبيض تماما ,غريب أمر
البشر , فلقد شعرنا جميعا بالأسى نحو البط أكثر من شعورنا نحو مصابي العمال , حتى
الضابط القاسي بدا شديد الحزن و هو يتمتم ((وحوش ))
ثم دخل رئيس العمال لحصر نتائج المجزرة ثم عاد
بعد قليل ليخبرنا , من بين ثلاثة آلاف بطة مات أربع و سبعون و أصيب بضع المئات
فأسقط في يد أحمد فنظر إلى طالبا العون , فطالبت العمال بوضع المصاب و الميت في
الحفرة و الاكتفاء بما تم .
و انطلق لسان أحمد بسباب قذر للعمال بعدما
تبين تواطئهم مع كامل , تواطئ فضحته مهاراتهم الفائقة في إمساك كل واحد منهم عشر
بطات و وضعهم في جوال بسهولة و يسر كي يأخذه إلى المنزل .
كان طريق العودة كئيبا فطالبت السائق بفتح
المذياع فصكت أذني أغنية العندليب (( عدا النهار )) .
تعليقات