التماثيل الشمعية (قصة قصيرة)




في الصباح شارف كل شئ الكمال ,فصار في يد كل تلميذ علمان صغيران , علم لدولتنا و علم لدولتنا الشقيقة , و امتلأت طرقات القرية بلافتات التأييد للزعيمين ,و انقسم التلاميذ إلى صفين يحدان الطريق الرئيسي , بينما كان الناظر بجسده الضئيل يطن حولنا كملكة نحل ناهرا إياي و التلاميذ إذا ما بدر منا ما يعكر صفو النظام الذي رسمه في خياله و حاول تطبيقه .

منذ شهر و نحن نعد لهذه الزيارة , فصار على أب أن يدفع مرغما ثمن علمين و إلا نال من ناظرنا ما لن يبهجه , و عمل مدرس الموسيقى بجد مع تلامذته لإخراج أفضل أداء لديهم , و رغم كل هذه الاستعدادات إلا أن الناظر كان شديد الهياج , فإذا رأى منى استهانة بتوجيهاته جاءني صارخا في هلع

-        ماذا بك ألا تعلم أننا مراقبون؟!! .... كلنا مراقبون ... حتى الصغار مراقبون, أمامي شهران قبيل التقاعد و أود أن أتجاوزهما بسلام.



الحق أنه على صواب , فمنذ أسبوع و أنا أرى العديد من الغرباء بالقرية , و سمعت بالأمس طنين حوامة , فلما لا يكون الناظر على صواب و سيمر على قريتنا الزعيمان  .

كان الكل سعداء بالزيارة و كان التلاميذ الأكثر سعادة , فيوم بلا دراسة يوم عيد لديهم , كل الكل سعداء إلا أنا , كنت أشعر بفتور حيال الزيارة , لكن فتورى لم يمنع الناظر من إجباري على مرافقة التلاميذ لأنني أصغر و أحدث المعلمين .

كنت أخشى أن يكون أحد الصغار قد سمع بالسباب المتبادل بين الزعيمين قرابة عام , فإذا سألني عن أخلاقية فعلهما فبماذا أجيبه ؟, ما الفائدة التي ستعود علينا من تعذيب هؤلاء الأطفال و إحراقهم بالرمضاء من أجل الترحيب بزعيمين لن يفعلا شيئا لحل مشاكلنا سوى الحديث, و ستخرج الصحف حبلى بثلاثة عناوين مقدسة كالبقرة الصفراء
((  القدس عربية و فك الحصار ))
(( تعزيز و تنمية التعاون الاقتصاى بين البلدين ))
(( دفع و تحقيق المصالحة العربية ))

انتصف النهار و لم يأت أحد  و تم إعلامنا لدواعي الأمن بأن الموكب سيمر عبر الطريق الخارجي للقرية فهرولنا إليه لكن الموكب لم يمر .
 شعر الجميع بالإحباط خصوصا فرقة المدرسة التي كلت من عزف         (( وطني حبيبي ))  و (( الحلم العربي )) , و بدا الناظر أكثر تهيجا و نشب بيني و بينه جدال لاهب حول تسيب التلاميذ انتهى بانتصاري و جلوس التلاميذ للاستراحة و تناول الطعام .

مع اقتراب النهار من فنائه بدأ الأطفال في البكاء و الشكاية و الطلبات الغريبة ,أستاذ حسن سأبكى ...أستاذ حسن أريد أمي .... أستاذ حسن أريد التبول...  أستاذ حسن أظن أنني تبولت على نفسي....  أستاذ حسن أظنني محموم .... لم أشعر بالضيق فنحن مدينون للصغار بالكثير , و كانت الأمهات القلقات قد ملأن التلال بعدما توحشن أطفالهن الذين تسربوا من الصفوف إلى أحضان الأمهات .

كان الناظر يرى في ذلك نوعا شديدا من التمرد و التسيب , و كان يراني المسئول الأول عن ذلك , إلا أنني كنت أواجه ذلك ببرود و أسأله باسما ((أين الموكب ؟)), فيبتلع غضبه و ينظر إلى في ضيق و صمت.

مع الغروب سمعنا ضجيجا و نفيرا مريعا فانتظم الصفان و بدأت الفرقة الجائعة إلى الطعام و الراحة في العزف بحماس غير معتاد ,و ظهرت دراجات نارية و سيارات عديدة ثم سيارة سوداء فخمة أعقبها عربات و درجات أخرى عبرتنا جميعا كالشهب , بدا اليأس على الجميع و تجمد المشهد , و بدا الأطفال كتماثيل شمعية , فعلت الوجوه ابتسامات متشنجة و ارتفعت الايدى بالأعلام بينما حلق الغبار فوق الجميع .

كان الناظر أكثرنا إحباطا و خيبة ... كان يأمل في توقف الزعيمين ليستعرض معهما مثل قائد محنك صفوف تلاميذه , ثم يشكو بعدها حظه العاثر الذي أوقعه في وظيفة ناظر ابتدائي , فيقول له الزعيم غاضبا
 -        إن الوطن لا يقبل بوجود مواهب مدفونة مثلك.... عينتك وزيرا للتعليم .

كان الأطفال في حيرة شديدة ... مر الزعيمان أم لم يمرا ؟, لكنهم لم يجرؤوا على طرح السؤال إلا طفلا امتلكته الجرأة بعدما طال الصمت فتساءل في براءة

-        ألن يأتيا الزعيمان ؟.

غالبتني ضحكة ماكرة ثم قلت للناظر ساخرا

-        حقا ....ألن يأتيا يا حضرة الناظر ؟!!!

تمت
28/8/2001





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المنادى(قصة قصيرة )

طابور الحمير (قصة قصيرة)